هذه ترجمة لمقال كتبه د. محمد عوض، أستاذ العمارة والمؤرخ السكندري وصاحب واحدة من أندر مجموعات الصور والخرائط للمدينة. المقال نشر عام 1996 ضمن عدد من المقالات والمختارات ضمها كتاب «الإسكندرية المصرية» Alexandrie en Égypte، وهو في الحقيقة العددان 9/8 من سلسلة Méditerranéennes غير الدورية. الكتاب قام بتحريره كل من «كِنيث براون» Kenneth Brown و«حنا داڤيز طيّب» Hannah Davis Taieb بالاشتراك مع الأديب الكبير إدوار الخراط والناشط السكندري الراحل د. عادل أبو زهرة. ورغم أهميته، لم تعاد طباعة الكتاب ولم تتم ترجمته إلى العربية منذ صدوره.
مقال د. عوض مرجع ثري عن تاريخ ميدان المنشية وعمارته وتحولات المجتمع السكندري منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين. هذه هي الترجمة الأولى له باللغة العربية. وإلى جانب الترجمة، تنشر «جدران مدينة متعبة» النص الأصلي باللغة الإنجليزية، لصعوبة الوصول إليه أيضا. الترجمة مصحوبة بالصور والخرائط التي ضمنها عوض في النص الأصلي.
كل الشكر لدكتور عوض لموافقته الكريمة على نشر النص وترجمته.
العنوان الأصلي للمقال: (1996) The Metamorphosis of Mansheyah
د. محمد عوض
ترجمة: محمد عادل دسوقي
في قلب
مركز الإسكندرية الأوروبي يقع "الميدان" أو "المنشية". عبر تاريخه
الحديث حمل هذا الفراغ أيضا أسماءً أخرى مثل «ميدان السلاح»، «الميدان الكبير»، «ميدان
القناصل»، «ميدان محمد علي»، ثم الآن «ميدان التحرير». هذه الأسماء تعكس التغيرات في
أحوال المجتمع المصري الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل عام، ومجتمع الإسكندرية
بشكل خاص.
الميدان هو أقدم الفراغات الحضرية في المدينة
الكوزموپوليتانية. هنا بدأت الكوزموپوليتانية وازدهرت في بدايات القرن التاسع عشر برغبة
وتشجيع محمد علي، حاكم مصر التقدمي (1805-1848) وخلفائه. ومن المفارقات، أن هنا أيضا
قام الزعيم القومي جمال عبد الناصر بإعلان تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من
يوليو 1956، مُنهيا بذلك قرنا ونصف من الكوزموپوليتانية بالمدينة.
في الفترة
الهيلينستية من تاريخ المدينة، امتد هذا الجزء من البروز الشمالي لمدينة «راقودة»
(راكوتيس) بالأحياء القديمة لسكان المدينة الأصليين إلى داخل «الميناء الكبير» إلى
الغرب من معبد «السيزيريوم» والسوق الكبير (الامپوريوم).
وصف الجغرافي
«سترابون» هذا الموقع كمخازن ومناطق لبناء السُفن امتدت حتى جسر «الهيبتاستاديوم» الذي
كان يربط بر المدينة بجزيرة «فاروس».
في العصر
الإسلامي اتسعت المساحة المحيطة بجسر «الهيبتاستاديوم» نتيجة لتراكم الطمي حول جانبيه.
لقد خلت المدينة القديمة -التي صارت أطلالا في ذلك الوقت- من السكان تدريجيا. وانتقل
العمران خارج أسوار المدينة إلى تلك المنطقة المحصورة بين المينائين، فيما أصبح معروفا
فيما بعد باسم «المدينة التركية». انتقلت أنشطة الصيد وصناعة القوارب نحو شمال غرب
الميناء، في الوقت الذي تطور فيه قلب المدينة التركية إلى الغرب من «المنشية»، ليصبح
منطقة تجارية حملت أسواقها دائما أسماءً ما بها من بضائع (مثل سوق العطارين وسوق السمك)،
أو بما فيها من مهن (مثل سوق الطباخين)، أو أعراق (مثل سوق المغاربة). وشاع بناء الوكالات
باستخداماتها المتعددة التي تشمل المسجد والمدرسة والمسكن والمتجر. ولا تزال وكالة
«تِربانة» (1685) ووكالة «الشوربجي» (1757) قائمتين بالفعل كاثنتين من أهم الآثار الإسلامية
بالمدينة.
عندما رست حملة «بوناپَرت» في الإسكندرية في
1798، كانت المساحة التي تشغلها «المنشية»
اليوم ساحة مفتوحة. في كتاب «وصف مصر» الشهير (1809) جاء وصف علماء الحملة للواجهة
البحرية الشمالية الغربية باعتبارها مقابر لمسلمين، ربما في إشارة لمنطقة تجمع المساجد
التي أنشأها الحجاج المغاربة حول مسجد «أبي العباس المرسي» حوالي عام 1767.
أما الخرائط
العسكرية لرسو الحملة الفرنسية فهي تحدد حيزا غير محدد المعالم أطلقوا عليه اسم «الساحة
المستوية». يظهر هذا الاسم في خريطة «هنري سالت» عام 1806، مثلما يظهر منزل هذا القنصل
البريطاني مقاما في الشمال الغربي على البحر مباشرة. في 1814 وصف الرحالة الإنجليزي
«برامسِن» المكان: "الميدان الكبير قرب البحر متسع، لقد تم تحسينه وتغطيته بالحصَى
بواسطة الأوروبيين الذين جاءوا إلى هنا ليتنفسوا نسائم البحر". تتفق هذه الرواية
مع ما جاء بخريطة القبطان «و. هـ. سميث» عام 1833 والتي تحدد الحيز باسم «ساحة مواكب
العرض». بعدها بعام ظهر اسم «ميدان السلاح» في خريطة «سالينِر دو ڤويللو» على الساحة
التي لم تكتمل بعد، وان بدأت في التشكل مع اكتمال بناء القنصلية الفرنسية في موقع مركزي
منها. مع انشغال محمد علي بالحملات العسكرية، اتخذت الإسكندرية دور الحامية العسكرية
كونها القاعدة العسكرية والبحرية للجيش والأسطول المصريين، وربما كان الميدان آنذاك
ساحة للعروض العسكرية. الخريطة المعدلة للقبطان «سميث» سجلت إزالة البوابة القديمة
لأسوار المدينة العربية لافساح الطريق لامتدادات «الحي الافرنجي»، بينما كانت أرصفة
الميناء لا تزال تحدد قطاعه الشمالي. ويظهر الشكل بالغ الاستطالة للميدان بشكل أكثر
تحديدا في خريطة الكولونيل «ناپيرز» (1841-1846)، وعلى نهايته الشرقية يظهر قصر «توسيتزا».
وأخيرا يظهر الميدان الموَسع كاملا في خريطة «تشارلز مولر» في 1885.
كانت
الإسكندرية قبل 1834 قد تشكلت بتأثيرات تركية. بُنيت المدينة في معظمها بواسطة نظام
الطوائف التقليدي بالبنائين والحرفيين المعلمين. وتوافقت اشتراطات البناء مع الشريعة
الإسلامية والممارسات التقليدية. بدأت العمارة تتأثر بالنماذج الأوروبية عندما سعى
حاكم مصر إلى تأكيد وضعه السياسي المستقل ولتأسيس دولة حديثة. حدث ذلك في الوقت الذي
اندمج فيه اقتصاد الدولة تدريجيا في النظام الاقتصادي العالمي كمنتج ومصدّر رئيسي للقطن.
تعززت علاقات مصر مع أوروبا عن طريق القناصل الأجانب المقيمين بالبلاد، والذين قاموا
أيضا بدور الوكلاء التجاريين. امتد حي الإسكندرية الأوروبي من شارع الافرنج (الآن شارع
فرنسا) وحتى الميدان الجديد؛ جاء أغلب المهاجرين إليه من دول المتوسط بجنوب أوروبا
ودول المشرق العربي. وأصبح وضعهم أفضل في ظل نظام الامتيازات الأجنبية الذي منح مميزات
خاصة للأوروبيين في الولايات العثمانية حيث أعفاهم من الضرائب ومن المحاكمات وفقا للشريعة
الإسلامية.
تحديث
البيئة العمرانية تضمن اتباع معايير بناء وأساليب تخطيط أوروبية. لقد طرحت المدينة
التركية التقليدية والأحياء الفقيرة غير المخططة مشكلات عدة مثل صعوبة الحركة وتكرار
انتشار الأوبئة. فقام محمد علي بتعيين مستشارين أجانب قاموا بتطبيق مواصفات البناء
ونماذج تخطيط المدن الأوروبية الجديدة. يقول «سيريسي» المهندس الفرنسي المسئول عن بناء
الترسانة عام 1834 "إن نظام البناء يأتي على نفس مستواه في أي مكان في العالم.
نحن نملك بالفعل أبنية يمكن أن تعد رائعة حتى في باريس".
تبنى محمد علي تخطيط أحياء لتسكين أفراد القوات
البحرية، حيث كان كل بيت في هذا الحي يتكون من طابقين لإقامة عائلتين، وفي مركز هذا
الحي خُصص مكان لإنشاء مسجد. بعد أربع سنوات، تقدم «مُنجِل»، الذي كان قد وفد إلى المدينة
لبناء أحواض لإصلاح السفن، للوالي بمقترح لتخطيط مدينة للسكان المحليين على الطراز
المغربي الأندلسي، "مخططة بحيث تحتوي على ميادين وحدائق ذات نوافير، وذلك لمكافحة
الأوساخ والرطوبة وتوفير تهوية أفضل في المدينة". وأصبحت هذه المقترحات قابلة
للتحقيق مع إنشاء مجلس «الأورناطو» في 1834، جهاز التخطيط الأول من نوعه في المدينة،
وفي الواقع، في مصر كلها. «الأورناطو»، الذي ربما كان مستوح من أجهزة مماثلة في مدن
إيطالية مثل ميلانو أو فينسيا عام 1807، كان جزءا من وزارة الصحة، أو ما عرف باسم
«انتندانس سانيتيير» (الإشراف الصحى) الذي ترأسه الإيطالي «كولوتشي بك». أسندت الإدارة
الفنية بمجلس «الأورناطو» إلى المهنس الإيطالي «فرانشسكو مَنشيني» عندما ترأسه القنصل
«مايكل توسيتزا»، الذي كان صديقا قديما ومقربا للوالي محمد علي. كان من بين المسؤوليات
المتعددة للمجلس، بجانب اهتمامه بتنظيم الشوارع ومراقبة البناء وتصميم المباني العامة
مثل المدارس والمستشفيات وغيرها، إنشاء "المركز الأوروبي" أو "الحي
الأفرنجي" الجديد حول «الميدان الكبير». تم هذا تحت إشراف إبراهيم باشا ابن الوالي
الذي كان يملك معظم أراضيه وأبنيته.
في موسوعته الشهيرة عن مصر في القرن التاسع عشر
(الخطط التوفيقية) يصف «علي باشا مبارك» منطقة «المنشية» كأرض شاغرة شبه مفتوحة كانت
تستخدم من قِبل البدو كسوق للماشية ولبيع بضائعهم كالتمر والصوف وما إلى ذلك. وكانت
تعرف آنذاك بـ«كوم الحَلة». صودرت البيوت القليلة في هذه المنطقة وتم تعويض أصحابها.
يذكر أن أول بناء أقيم في المنطقة كان مسجد «الشيخ إبراهيم» (1820)، أما الثاني فكان
وكالة «محرم بك»، التي حملت اسم قائد الأسطول المصري وزوج ابنة محمد علي. وأعقب ذلك
بناء سكن «دا أناستازي» وسكن «چيبرا» الذي اشتراه الوالي لاحقا. أما أسواق اللحوم والخضروات
فكانت في الأصل أزقة أو حارات قام الوالي بمنحها للأمراء الذين قاموا باستثمارها في
النهاية. تدل هذه المبادرات بوضوح على اتساع نفوذ وثروة هذا الحاكم المطلَق وأسرته
ومدى اهتمامهم بتشجيع "تغريب" البيئة العمرانية.
«ميدان القناصل» الجديد قام بتصميمه المهندس
«مَنشيني» الذي قيل أنه أيضا قام بتصميم معظم مبانيه. الميدان الذي بلغ طوله 420 مترا
وعرضه 65 مترا أحاطت به المباني بالكامل. أبنية سكنية مستطيلة بارتفاع ثلاثة أو أربعة
طوابق بدت مشابهة لمفهوم الأبنية المطبق في مدن إيطالية مثل ميناء «تريسته» إبان حكم
الإمبراطورية النمساوية المجرية بمنتصف القرن الثامن عشر. لقد أوشكت الإسكندرية أن
تصبح الميناء الرئيسي لإمبراطورية محمد علي الجديدة.
كان للمباني مظهرا إيطاليا شرقيا. تم طلاؤها باللونين
الأصفر والوردي على غرار النمط السائد في الشام ومدن شرق المتوسط، وتزينت واجهاتها
بقوالب زخرفية منسوخة، بنوافذ أوروبية بضلف "شيش" على الطراز الڤينيسي.
في البداية وُضعت مسلة قصيرة من الألباستر حديثة
الصنع في مركز الميدان. وهو ما أثار الكثير من السخرية في بلد تتوفر فيه المسلات الأصلية.
وكانت به كذلك نافورة في ناحية واحدة.
في عام 1857 ذكر «بارتيليمي سانت هيلير» أن
"الإسكندرية مدينة نصف أوروبية، يتساوى «ميدانها الكبير» بأمثاله في المدن الكبرى
بفرنسا". بينما اختلف مشاهدون آخرون لنفس الفترة في الرأي، مثل «پواتو» الذي وصف
الميدان بالعاري "بلا شجرة واحدة تدفئ طبيعته الباردة دائما". ووصف «تيوفيل
جوتييه» طابع الميدان الهجين: "على الرغم من الأشكال الأوروربية غير المكتملة،
قد لا نزال نشعر أننا في أفريقيا". أما «لوتين دي لاڤال» فقد أكد أن المدينة قد
فقدت ملامحها الشرقية الخلابة، غير أنه أشاد بالمكاسب المحلية التي نتجت عن برامج الإصلاح
التي اتبعها محمد علي وتجديده.
ارتبطت الثروة المبكرة بميدان القناصل بثروات
اليونانيين الجديدة، وبأصدقاء الوالي وشركائه المقربين في التجارة. وقف قصر المسيو
«توسيتزا» (القنصل اليوناني) والذي صممه «مانشيني» بشموخ على رأس الجهة الشرقية للميدان.
وكذلك كان هناك القصر الأنيق الخاص بالكونت «زيزينيا» قنصل بلجيكا. غلبت الأنشطة التجارية
على الميدان: العديد من الوكالات الكبيرة مثل وكالة «چِبرا»، وكالة «دا أنستازي»، ووكالة
«نوڤ» (الوكالة الجديدة)، كانت أدوارها الأرضية مخصصة لكل أنواع المشروعات التجارية
والخدمات العامة. يذكر دليل «موراي» مكتبة «روبرتسَن وشركاه»، مجوهرات «روتشمَن»،
«بوريه» لتصفيف الشعر، مصورين مثل «فوريليو» ومتاجر أزياء مثل «كورديه». وكان هناك
أيضا العديد من المقاهي والمطاعم والفنادق. الأمير «عمر طوسون» تحدث في مذكراته
"الإسكندرية عام 1868" عن المقهى الأكثر بريقا «لو كافيه دو فرانس نمرة
27» والفندق الشهير «اوتيل دوروپ» والذي كان يحتوي على حمام عام (برسم دخول 2 فرانك).
وشملت الأنشطة التجارية الواقعة بالميدان أيضا شركات التأمين مثل «پييل وشركاه»، وشركة
غاز «لِبون وشركاه»، و خدمات البريد الإيطالية، والبنوك مثل البنك «المصري الانجليزي».
وعادة ما كانت الطوابق العليا لهذه الوكالات مخصصة للاستخدام السكني والمكاتب.
أشهر بناء على الميدان كان مبنى القنصلية الفرنسية
والذي احتوى أيضا على خدمات البريد الفرنسية. كانت حدائق القنصلية تفتح للجمهور في
عطلات نهاية الأسبوع وفي المناسبات الخاصة، وكذلك كانت حدائق كنيسة «سانت مارك» الإنجيلية، وهي المبنى
الديني الوحيد الذي حظى بموقع على الميدان مباشرة. تبرع محمد علي بالأرض عام 1839؛
وكان قد قام بلفتات مماثلة للتجمعات الدينية الأخرى تشجيعا لهم لبناء أبنية مبهرة.
في محيط الميدان بُنيت كنيسة اسكتلندية، وكنيسة للبروتستانت الألمان والفرنسيين، وكنيسة
للروم الكاثوليك، وللروم الأرثوذكس، وأخرى للموارنة والأرمن، في حين تجمع المسلمون
حول منطقة مسجد «الشيخ ابراهيم». كان وجود أماكن عبادة قبطية ويهودية بالقرب من المواقع
التاريخية يؤكد التكوين متعدد الأعراق للمدينة الكوزموپوليتانية الوليدة.
صممت كنيسة «سانت مارك» بين عامي 1841-1842 بواسطة
المعماري البريطاني الزائر «چايمس وليَم وايلد». واستغرق بناؤها أكثر من 9 سنوات
(1845-1854)، ربما بسبب نقص في التمويل. صُمم مسقطها على التقليد البازيليكي، وأظهرت
واجهاتها تأثيرات بيزنطية وإسلامية ويهودية. كان مفهوم «وايلد» في التصميم استشراقيا
وإنتقائيا، تمشيا مع وقته ومكانه.
كانت هناك تطورات محدودة في نشاط البناء في منطقة
المنشية في عصر ما بعد محمد علي، رغم أن «عباس الأول» قام بتحويل نافورة قديمة إلى
مبنى كبير حمل اسم ابنه «إلهامي باشا». تم بيع هذا المبنى بعد وفاته لليوناني سير
«چون أنطونيادِس» بسعر بلغ 50 ألف جنيه، كما قيل آنذاك. وفي عام 1866 أُنشئت بورصة
تبادل الأوراق المالية برأس مال أولي بلغ 24 ألف جنيه. واستُخدم قصر «توسيتزا» كمقر
للبورصة الجديدة، وأيضا كمقر لمكاتب الإشراف الصحى و«الأورناطو». كما ضم المبنى أيضا
مقر «النادي الدولي» ومكتبة عامة احتوت على حوالي 8000 كتاب.
البورصة في أوج ازدهارها |
لم تمتد مخططات الخديوي اسماعيل لإعادة تخطيط
القاهرة على طريقة المُخطِط الفرنسي «أوسمَن» إلى مدينة الإسكندرية التي كانت
"مُغرّبة" بالفعل، باستثناء تزيين الميدان -الذي أصبح يعرف الآن باسم «ميدان
محمد علي»- بعد إقامة تمثال لمؤسس المدينة الحديثة ممتطيا جواده. عُرض التمثال الذي
صممه النحات الفرنسي «چاكومار» للمرة الأولى في «المعرض العالمي» لعام 1868. وقد تم
تصميم قاعدته من رخام «كرارا» الأبيض بواسطة المعماري الفرنسي «أمبرواز پودري»
(1871-1873). لم يمر أمر إقامة تمثال بتكلفة باهظة بلغت 2 مليون فرانك مرور الكرام،
على الرغم من سلطة الخديوي وحكمه المطلق. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقام فيها
تمثال لشخص على متن جواد في ميدان عام في بلد مسلم. رفض علماء الدين هذه الفكرة، على
الأقل لبعض الوقت، على اعتبار أن الشرع الإسلامي يعارض تصوير الأشخاص. ولم يتم وضع
التمثال في مكانه إلا بعد تدخل رجل الدين الإسلامي المستنير الشيخ محمد عبده ، وهو
صديق قديم ورفيق للخديوي.
[تجدر الإشارة هنا أن الإمام محمد عبده كان وقت إقامة تمثال محمد علي بميدان المنشية لا يزال طالبا بالأزهر الشريف في العشرين من عمره تقريبا. عُين الإمام مفتيا للديار المصرية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1899 أي بعد إقامة التمثال بنحو ثلاثين عاما وظل في هذا المنصب لفترة ست سنوات أصدر أثنائها فتواه المعروفة بإباحة تصوير الأشخاص في الفنون البصرية وخاصة النحت - المترجم]
تمثال محمد علي بالمنشية |
اشتهر عهد الخديوي إسماعيل بالامتيازات التي منحت
لشركات الخدمات الأجنبية. أدخلت شركة «لِبون» الغاز إلى المدينة. وأصبح ميدان محمد
علي، المضاء ليلا الآن، في كامل تألقه. شركة «كورديه»، المسؤولة عن معالجة المياه وتمديد
المواسير، كُلفت بتشجير الميدان بأربعة صفوف من أشجار الأكاسيا (السنط)؛ وأضيف أيضا
كشك للموسيقى ونافورة ليكملا تشجيره المتماثل.
أدى المأزق المالي بالخزانة المصرية في سبعينيات
القرن التاسع عشر إلى اضطرابات سياسية واجتماعية. تنازُل الخديوي إسماعيل عن العرش،
ثم ثورة عرابي بعدها، تُوِجا بأعمال شغب مناهضة للأوروبيين وبمجازر الإسكندرية المأساوية
في يونيو 1882، والتي قُتل وجُرح فيها الآلاف من المصريين والعشرات من الأوروبيين.
كان ميدان محمد علي والمناطق المجاورة له مسرحا لهذه الأحداث، والتي كانت بمثابة ذريعة
للقصف البريطاني للمدينة وللاحتلال الذي أعقبه. الأحياء الأوروبية، بما في ذلك ميدان
محمد علي، استُهدِفت ودُمِرت جراء القصف نفسه في 11 يوليو 1882 وما لحق به من أعمال
النهب والحرق. ولم ينجُ من الميدان المدمَّر سوى مبنيان فقط، وهما البورصة وكنيسة
«سانت مارك». شمل الدمار مسطحا بلغ 96,709 مترا مربعا، تضمن ما يقرب من 500 شقة في
وسط المدينة وحفنة من الڤيلات في شارع «محرم بك».
أقيمت محكمة عسكرية أمام قصر «توسيتزا» وأُصدرت
أحكام سريعة. وكانت «المنشية» نفسها مسرحا لعمليات الإعدام العلنية واستخدمت أيضا كمقابر
لمن نُفذ فيهم حكم الإعدام.
في أعقاب القصف، قامت الحكومة المصرية بتعويض
المُلّاك عن فقدان ممتلكاتهم. وبلغت قيمة التعويضات 4,5 مليون جنيه وغطت 4080 دعوى.
وكانت هناك موجة من الازدهار نتيجة لتدفق مثل هذا القدر من الأموال، وأعيد بناء المدينة
بشكل سريع.
التنمية السريعة في مرحلة ما بعد 1882 كانت بالأساس
نتيجة لهذه التعويضات. وساهم التوسع فى التجارة وارتفاع أسعار القطن في استقرار الثروة
بين طبقة برجوازية من السماسرة الشوام/الفرنسيين كانت تتألف من تجار وخبراء ماليين
وأصحاب الأراضي. وحدثت طفرة في البناء بين
عامي 1882 و 1914، لم تتوقف سوى لفترة وجيزة أثناء أزمة المضاربة ما بين 1906-1907،
وذلك في مناخ من الاستقرار السياسي ونمو اقتصادي مستمر وإعادة هيكلة إدارية.
سيطرت مجموعة ناشئة صغيرة من الوُجهاء ذوي النفوذ،
ربما لا يزيد عددهم عن الألف، على معظم الأنشطة المالية في المدينة. أسماء عائلات مثل
«أجيون»، «مِنَشَّا»، «سُرسُق»، «كرم»، «بَسترُس»، «سوارِس»، «رولو»، و«بوغوص نوبار»،
وعائلات الجيل الثاني من الأثرياء اليونانيين، مثل «زِرڤوداكي»، «رالي»، «سالڤاجو»
، «بِناكي»، و«كوريمي»، كانت تظهر مرارا وتكرارا في مجالس إدارة البنوك وشركات التأمين
وشركات الخدمات العامة والنوادي الاجتماعية.
هؤلاء الوكلاء والمصرفيون الذين أصبحوا مُسوِّقين
عقاريين كانوا هم أيضا المساهمين الرئيسيين في شركات التطوير والتنمية المسئولة عن
تطوير جزء كبير من «المنشية» وشارع «شريف باشا» والمباني المُطلّة على شارع «رشيد».
دور أساسي آخر قامت به هذه المجموعة الصغيرة،
بالإضافة إلى أنشطتها في تطوير مجال المضاربة، كان تأسيسهم لـ«بلدية الإسكندرية» ذات
النظام الإداري المستقل في عام 1890. وأسسوا فيما بينهم «المجلس المختَلَط» لإدارتها،
وسيطروا بالتالي على مصير المدينة. وهو ما أعطاهم الفرصة لمواصلة تعزيز الطابع الأوروبي
للمدينة.
تميزت إعادة بناء ميدان «محمد علي» فما بعد
1882 بهيمنة التأثير الإيطالي. من بين أهم مباني هذه الفترة كان مبنى وكالة «مِنَشَّا»
(1885-1887)، والتي أقيمت على قطعة أرض مساحتها نحو 15 هكتار. الأرض التي اشتراها في
الأصل البارون «ليفي دو مِنشّا»، تم استثمارها من قِبَل «الشركة العامة للمباني بمصر»
(التي أسسها آل كرم، وأجيون، ومنشا، وسوارس). ثم قام المقاول اليوناني «ج. زورو» ببناء
الوكالة وفقا لتصميمات المعماري الإيطالي «أنطونيو لاشياك». ثم تظهر تأثيرات مباني
«ميلانو» التجارية المغطاة من جديد في مبنى «وكالة مونفراتو» الذي صممه «لويجي پياتوللي».
هذه الاستثمارات التجارية جنبا إلى جنب مع «عمارة پريمي» التي صممها «لاشياك» أيضا،
وفرع «البنك العثماني الإمبراطوري» الرئيسي الذي صممه «بروسپر ريمي»، وكذلك «البورصة»
التي شغلت قصر «توسيتزا» بعد تجديده، أمّنت مستقبل الأعمال والنشاط التجاري واستمراره
في الفراغ الحضري المعاد بنائه. مَعلمٌ آخر من معالم القرن التاسع عشر بالميدان كان
مقر «المحاكم المختلطة» الجديدة التي صممها «ألفونسو مانيسكالكو» عام 1886.
كانت عمارة العصر الذهبي للإسكندرية في أواخر
القرن التاسع عشر عمارة انتقائية متحفظة؛ بأشكالها وزخارفها التي تميل إلى طرز إحياء
عصر النهضة وتبدو أكثر التزاما من الانتقائية الأكثر تحررا في بدايات القرن العشرين،
وخاصة فيما يتعلق باستخدام القوالب الزخرفية المنسوخة. يخلق هذا التطوير الاتجاه الذي
سيؤثر على وسط المدينة بأكمله.
تعززت "أَوْربة" التكوين العمراني للميدان
مع توسعته لربطه بالكورنيش الجديد (1905)؛ وهو ما خلق فراغا حضريا جديدا، هو ميدان
«الحدائق الفرنسية» (1909). واستمرت طرز الإحياء الأوروبية في هيمنتها على عمارة الميدان،
رغم ظهور الطراز الإسلامي المستحدث في قصر «الأمير إبراهيم»، في إشارة خافتة للتكوين
المزدوج للمدينة الكوموپوليتانية.
الميدان في بهاء عصره الذهبي |
بدأ تجريد الميدان من قيمته بعد 1882،
عندما قامت النخبة السالف ذكرها في نقل مساكنهم نحو شارع «رشيد» مثل «أجيون» و«سرسق»
و«پيني»، أو إلى «الحي اليوناني» مثل «بِناكي» و«سالڤاجو»، أو إلى حي «محرم بك» مثل
«مِنشّا» و«جرين» و«عَداه». وانتقل آخرون إلى ضاحية «الرمل» مثل آل «كرم» و«بِندر ناجل»
و«زِرڤوداكي» و«لوران». واتخذت الأعمال التجارية، بما في ذلك البنوك، مقرّات في المناطق
المجاورة للمنشية، حيث بدأ مركز جديد للمدينة في التوسع حول شوارع «شريف باشا» و«سيزوستريس»
و«طلعت حرب». غير أن المنشية استمرت في الحفاظ على أهميتها بسبب وجود البورصة.
لم يشهد مطلع القرن العشرين الكثير من التغييرات
في المنشية. كان الاستثناء المهم هو إنشاء خطوط الترام الكهربائية (1897-1904). وتعزز
ميدان «الحدائق الفرنسية» المجاور بالمبنى المتأنق «للقنصلية الفرنسية» الذي تم بناؤه
في عام 1909، والذي صممه مكتب «الأشغال العامة» الفرنسية، وأشرف على بنائه المعماري
الفرنسي المقيم بالإسكندرية «فيكتور إرلنچيه». وفي عام 1912 صمم «إرلنچيه» أيضا بنايتين
سكنيتين لحساب شركة «أليكساندريا سنترال» عند تقاطع شارعي «أديب» و«شريف باشا» بالقرب
من البورصة. ويبدو أن التأثيرات الفرنسية قد ألهمت أيضا عمارة «وقف يعقوب الدهان» الرشيقة
(فندق ماچيستيك) (1910)، والتي صممها «هنري غُرة» بك خِرّيج المدرسة المركزية بباريس،
والتي تكاملت مع لاندسكيپ الحديقة الفرنسية.
استمر هذا التأثير الفرنسي في فترة ما بعد الحرب
العالمية الأولى. ازدهر الاقتصاد المصري بسبب الزيادة في أسعار القطن، مما زاد من ثراء
تجار المدينة. وكان «ج. قرداحي» المعروف باسم "ملك البورصة" من بين الأثرياء
المتواجدين بالميدان. في عام 1926، قام بتمويل إنشاء مبنى شديد التميز قام بتصميمه
المعماريون الفرنسيون «أ. دريسي» و«ل. أودين» و«ر. ليكار» كان طرازه المعماري إنتقائيا
محافظا، ولكنه تميز بملمحين جديدين: التعبير الرفيع في التشكيل المعماري، ووجود الطوب
الأحمر على واجهاته، وهو ما تناقض بشكل حاد مع الواجهات البسيطة أحادية اللون للمباني
الأخرى على الميدان.
خلال الثلاثينيات والأربعينات تمت إعادة تطوير
الميدان، مما أدى، للأسف، إلى إحلال بعض المباني القديمة والرائعة مثل بناية «پريمي».
المطورون كانوا إما شركات تأمين، كشركة «مصر للتأمين» على سبيل المثال، أو رجال صناعة
مثل «كوتسيكا» الذي أقام بناية على الميدان قام بتصميمها المعماريان الحداثيان «م.
فلوري» و «ك. جورجيادس». تَنَاقَض ارتفاع المبنى الجديد بطرازه الحداثي المبكر بشكل
حاد مع النظام والطراز القائمين في الميدان.
استمرت الاتجاهات الحداثية بعد ثورة 1952. في
1958، تمت إزالة الحي السكني الذي بُني إلى الجنوب من الميدان في القرن التاسع عشر،
وذلك لافساح الطريق لشارع (طريق) «النصر»، وبذلك تم ربط الميناء بما أصبح الآن معروفا
باسم «ميدان التحرير». وعلى طول طريق «النصر» وضعت البلدية مخططا شاملا جديدا لاستكمال
التمصير؛ مبان سكنية منتظمة صممها المعماري المصري «محمود الحكيم»، خريج جامعة «ليڤربول»،
كان من المفترض أن تضم العديد من الشركات، وخاصة تلك المرتبطة بأنشطة الميناء. لكن
التوقيت كان خاطئا. وعلى الرغم من أن «الضباط الأحرار» اهتموا بالمشروع بشكل شخصي،
لم تتفق الأهداف الإنمائية للمشروع مع الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في
ذلك الوقت.
المشاعر المعادية للغرب، والتأميم، والنزوح الجماعي
للأوروبيين من البلاد في نهاية المطاف، تبعها مصادرة الممتلكات المصرية التي تمتلكها
الطبقات الغنية. وأدى ذلك إلى الحد من الأعمال وإلى انتقاص مساهمات القطاع الخاص. وتحول
مشروع البلدية (بطريق النصر) في نهاية المطاف إلى استخدام الشركات الصغيرة والمساكن
منخفضة التكاليف.
شهد الجنوب الغربي للميدان أيضا تغيرات مادية.
السوق الجديدة التي خططها مكتب التصميم بالبلدية كانت جزءا من مخطط إعادة التطوير الكلي
لعام 1958. للأسف لم تكن إعادة تنظيم السوق كافية لتلبية الإمكانات التجارية الهائلة
للميدان. وبالتالي تضاءل حجم السوق الجديدة بين الأسواق التقليدية الكثيفة بشكل فوضوي.
« سوق سوريا» الذي عُرف فيما بعد بسوق «ليبيا» تبعا للمكان الذي جاء من البضائع المهربة،
يشير بشكل ساخر إلى سياسات القومية العربية بعهد «عبد الناصر». أما بالنسبة لـسوق الصرافين
أو "سوق الدولار"، وهي ظاهرة ارتبطت بسياسة الانفتاح في عهد السادات، فهي
الآن أيضا سوقا استهلاكية كبيرة وبارزة للملابس الرخيصة والمعدات المنزلية.
المشاعر المناهضة للمَلَكية في أوجها في بدايات
عهد ناصر لم تطمس موقع «محمد علي» بالميدان. ولكن تمثال الخديوي إسماعيل تمت الإطاحة
به من فوق قاعدته. كان النصب التذكاري لإسماعيل قد أقيم في نهاية «الحدائق الفرنسية»
على البحر مباشرة كهدية من الجالية الإيطالية في ذكرى مُغرّب مصر المتعجل. تم تصميمه
في عام 1938 بواسطة المعماري الايطالي «إرنستو ڤيرّوتشي» كبير مهندسي القصور الملكية
في عهد الملك فؤاد، وربما كان مستوحى من النصب الأول لـ «ڤيكتور إيمانويل الأول» في
روما. الموقع الآن تحول إلى نصب تذكاري للجندي المجهول.
جذبت المنشية أيضا اهتمام الأصوليين الإسلاميين
خلال فترة حكم عبد الناصر. شرفة الاتحاد الاشتراكي، البورصة سابقا، بإطلالتها على الميدان،
تم اختيارها كمكان مثالي يصلح كخشبة مسرح لخطب عبد الناصر الجماهيرية. في 26 أكتوبر
1954، شهد الموقع محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس. وبإلقاء اللوم على جماعة «الإخوان المسلمين»
شبه الرسمية، أنهت محاولة الاغتيال شهر عسل قصير بين الجماعة والنظام المدني. ورغم
الملاحقة والحظر القانوني، لم يُحل تنظيم الإخوان. ورغم احتواء الأصولية الإسلامية
في قبضة دولة عبد الناصر المُحكمة فقد كان لها عودة قوية في عهد السادات. بل أنها أنهت
حياته بشكل مأساوي.
منذ بداية الستينيات سيطرت دولة ناصر الاشتراكية
الاستبدادية على معظم الصناعات والخدمات من خلال القطاع العام البيروقراطي. تقلصت المشاريع
الخاصة بشكل كبير، لدرجة أن بورصة الأوراق المالية توقفت أعمالها تقريبا. وأصبح مبنى
البورصة العظيم مقرا للحزب الأوحد، «الاتحاد الوطني» ثم لاحقا «الاتحاد الاشتراكي».
أحترق هذا المبنى من الداخل جزئيا خلال مظاهرات التي عرفت باسم «انتفاضة الخبز» في
يناير عام 1977، حينما بدأ رفع الدعم الحكومي تدريجيا. وبعد أن دُمّر جزئيا، تم هدم
المبنى في بداية الثمانينيات. وهو الآن قطعة أرض خالية تستخدم كموقف للسيارات.
المباني الدينية حول المنشية، باستثناء الكنيسة
الاسكتلندية (قصفت خلال الحرب العالمية الثانية) والمعبد اليهودي (احترق بشكل جزئي
أثناء المظاهرات المعادية لإسرائيل في أعقاب العدوان الثلاثي عام 1956) لا تزال تعمل
بتحفظ لعدد محدود نسبيا من المصلين. لقد ولت أيام التعددية والتسامح الديني عندما كانت
احتفالات المسلمين المصاحبة لموكب «المحمل»، تتواكب مع موكب شواهد أضرحة الروم الأرثوذكس،
تنطلق جميعها خلال شوارع المدينة وميدانها.
الإسكندرية اليوم هي مدينة اللغة الواحدة والعرق
الواحد والعقيدة الواحدة، الإسلام بشكل أساسي. ما تبقى من الكوزموپوليتانية هامشي.
انقرض هذا المجتمع أو هو في طريقه إلى الانقراض، وتراثه المادي في خطر.
يستمر الطابع العمراني للمنشية في التردي؛ تدهورت
المباني بسبب انعدام الصيانة، وهو انعكاس آخر للقرارات الاشتراكية الخاصة بتخفيض الإيجارات
والتحكم فيها. البيئة المبنية تهددها التعديلات غير المدروسة والإضافات غير الملائمة
للطرز الأصلية. الازدحام ساحق في كل من البيئة المبنية والبيئة الحضرية بشكل عام. الضغط
السكاني في حقبة ما بعد الاشتراكية، جنبا إلى جنب مع نقص المساكن، أدى إلى تقسيم المساحات
في المباني القائمة. الزحام في الفراغ العام وفي المساكن، بما في ذلك ظاهرة سكان أسطح
العمارات حول الميدان، هي النتائج المباشرة لأزمة الإسكان والفقر. الفوضى المرورية
ووجود الباعة الجائلين الذين يحتلون كل شبر متاح من الأرصفة المحطمة هي نتيجة، على
الأقل جزئيا، لسوء الإدارة وتراجع دور الدولة في الحفاظ على البيئة المبنية وتنظيم
الفراغ العمراني.
سوء الإدارة الاقتصادية للميدان يظهر جليا مع
بناء برج «قصر القطن» الضخم ذي الأربعة عشر دورا في منتصف الثمانينات، والذي صممه المكتب
الإيطالي «ڤولاني أرشيتِتورا». وفي الوقت الذي يزيد فيه هذا البرج من فوضى الميدان
وشكل المدينة، فلا يزال معظمه شاغرا بسبب تكلفة بنائه الباهظة وموقعه السيء؛ فقط ثلاثة
من طوابقه تشغلها حاليا جامعة «ليوپولد سِنجور» الأفروفرنسية.
بعد تاريخ يزيد عن قرن ونصف، فإن المنشية، مثلها
مثل المدينة نفسها، تبحث عن إعادة تعريف لدورها في العصر الحديث. فما كان يوما يمثل
القلب السياسي والاجتماعي والاقتصادي للإسكندرية، تم اختزاله في كونه دوار واسع للمرور
يكتظ بالباعة الجائلين. إن روعة الماضي تنتظر إعادة إحياء، وربما تنتظر اسما جديدا.