لن تعبر هذه الكلمات مهما أسهبت عن المأساة التى تعيشها الإسكندرية هذه الأيام؛ فالمدينة التى كانت يوما عروس البحر المتوسط تتعرض الآن للاغتصاب بواسطة جحافل مقاولى ومستثمرى البناء ومحترفى الربح السريع بأى ثمن وبكل أسلوب؛ فى ظل غياب هيبة الدولة وسلطة القانون والردع الأمنى، حيث يجرى يوميا هجوم محموم دون هوادة أو وازع أخلاقى أو إنسانى أو حضارى على تراث الإسكندرية من الفيلات والقصور التاريخية والمبانى والأبنية التى أبدع فى بنائها عباقرة المعماريين والمهندسين الإيطاليين واليونايين والمصريين؛ لتدميرها وهدمها جهارا نهارا وتسويتها بالأرض تمهيدا لإقامة أبراج شاهقة محلها وبنايات عملاقة لا تلتزم ضوابط ولا قانون فى إقامتها؛ قانونها الوحيد هو قانون التاجر الجشع المستعد لعمل كل شىء وأى شىء من أجل الربح.
|
من موقع وكالة ONA للأخبار |
هذه الجريمة لا تتعلق فقط بالقضاء على الطابع الحضارى الفريد للإسكندرية أو تراثها المعمارى والذى يكاد يندثر أو فى طريقه للاندثار؛ بل تتعلق بما يترتب على هذه الجريمة من تداعيات على الحياة فى مدينة الإسكندرية والتى تدهورت أحوال شوارعها ومرافقها بصورة لم يسبق لها مثيل؛ إن المدينة التى تم وضع نواة تخطيطها وتقسيمها الحديث فى بدايات القرن الماضى ارتكزت على تحديد الطاقة الاستيعابية لشوارعها وميادينها ومبانيها ومرافقها وفق ضوابط وارتفاعات وأعداد سكان محسوبة جعلت الإسكندرية بمثابة أقرب المدن المصرية إلى طابع المدن الأوروبية وجعلت منها واحدة من أحب المدن فى مصر سواء لأهلها أو للمصريين جميعا.
اليوم وكل يوم يمكن لأهالى الاسكندرية أن يقضوا الليل مستمعين إلى أصوات البلدوزرات وهى تدمر دون رحمة الفيلات والقصور والمبانى الرائعة، التى طالما كانت بهجة للناظرين بطرازها المعمارية الفريدة وحدائقها التى طالما عبقت الهواء بعبير الزهور وأريجها فى طوال شهور الربيع ومطلع الصيف؛ يمكن الآن أن تسير فى أى شارع فى أى منطقة لتشاهد آثار هذا العدوان الغاشم كأنما ضربت هذه المبانى بالقنابل؛ وخلال عدة ساعات من شروق الشمس على حدوث الجريمة وفى موقع الحدث يصطف رتل طويل من سيارات النقل لتحميل الأنقاض بسرعة تحسبا لأى طارئ قد يفسد المناسبة ويجهض المشروع ويذهب أحلام الربح الجشع وأمانيه.
وخلال أيام معدودة تتم عملية حفر الأساسات على قدم وساق ثم يبنى الطابق تلو الآخر فى فترة زمنية وجيزة قد لا تسمح حتى باكتمال جفاف الخرسانة وتصلبها وهنا يتم اللجوء إلى المواد الكيماوية التى تسرع بجفاف الخرسانة تمهيدا للانطلاق نحو بناء الطابق التالى؛ وهكذا ففى فترة زمنية وجيزة يحل البرج الشاهق محل الفيلا الأنيقة وبدلا من أسرة واحدة تسكن الفيلا وسيارة واحدة بداخلها أو أمامها، يظهر إلى الوجود برج شاهق قد يصل إلى 22 طابقا يقطنه ما يزيد عن 80 أسرة بأبنائها وسياراتها؛ ومرافق الشارع من كهرباء ومياه وصرف صحى وصناديق قمامة وغيرها من المرافق والخدمات التى جهزت للتعامل مع فيلا واحدة أصبحت اليوم تأن تحت وطأة سكان البرج الشاهق .
مئات من الأجهزة الكهربائية وأجهزة التكييف ومواتير المياه تعمل على مدى اليوم لتولد طلب استهلاكى هائل على الطاقة الكهربية؛ فى برج واحد يوجد مثله عشرات الأبراج فى نفس الشارع فى نفس المنطقة التى تضم عشرات الشوارع المماثلة؛ فينقطع التيار تحت وطأة الضغط الاستهلاكى؛ وكذلك المياه؛ أما شبكات الصرف الصحى التى صممت لاستقبال صرف الفيلات والمبانى ذات الارتفاع المناسب لعرض الشارع وطاقة مرافقه؛ فلا تحتمل التصريف الهائل للبرج فتنفجر مواسير الصرف وتطفح البالوعات مشكلة فينيسيا إسكندرية من مياه الصرف التى تحمل الأمراض والموت لسكان الشارع والمنطقة؛ يضاف إلى ما سبق مسألة الجراجات التى يحرص أصحاب الأبراج على تجاهلها فيتسابق أصحاب السيارات لركن سياراتهم صف أول وثانى بالشارع ليصبح المرور حارة واحدة مختنقة دوما وطوال الوقت.
نحن اليوم لا نتحدث عن شارع بعينه أو منطقة بعينها تجرى فيها هذه الجريمة، بل عن ظاهرة تجتاح المدينة دون ضابط أو رادع؛ الإحصاءات أشارت إلى هدم ما يزيد عن عشرة آلاف فيلا وقصر فى أنحاء الإسكندرية وعن أكثر من 160 ألف مخالفة بناء وتعلية وهدم مبانى دون ترخيص؛ المحافظة نفسها رفعت الراية البيضاء واستسلمت أمام هذه الجحافل والمصالح برغم وجود القوانين الرادعة المانعة؛ والفساد الذى توارى مؤقتا فى الإدارات المحلية والهندسية والتنظيم والأحياء عاد من جديد ليعمل بدأب فليس هناك من رقيب ولا حسيب ولا رادع؛ المصالح المتبادلة بين العديد من الموظفين العموميين فى هذه المواقع الحساسة وبين شركات ومقاولى البناء والمستثمرين النهمين سمحت بوجود هذا التحالف الصامت بينهم؛ فالكل يثرى والكل مستفيد.
السؤال الذى يفرض نفسه هل عجزت الدولة عن تطبيق القانون ؟ لا أعتقد ذلك لأن المشكلة هى فى الإرادة؛ فالوسائل متعددة ومتنوعة للتصدى لهذه الجريمة المستمرة؛ ومحافظ الإسكندرية أعلن أنه لا يستطيع الوقوف فى وجه المخالفات؛ وأعلن عدم قدرة المحافظة وأجهزتها على التصدى لها لأسباب متنوعة فى مقدمتها انشغال الأجهزة الأمنية والأحداث الجارية وعدم توافر الموارد اللازمة؛ ومواطنو المدينة وقفوا بعد سماعهم لهذه التصريحات يتحسرون على دمار مدينتهم وزوال تراثها الحضارى والمعمارى وطابعها المميز؛ فها هى السلطة التنفيذية تعلن عجزها متذرعة بشتى الأعذار والحجج .
وفى أعقاب كل تصريح متخاذل تشتد الهجمة الإجرامية على المدينة وتراثها الحضارى والمعمارى؛ تكاد على أثرها المدينة تتحول إلى غابة خرسانية هائلة تحجب الشمس والهواء؛ والمحورين الرئيسيين لحركة المرور فى المدينة طريق الحرية وطريق الكورنيش؛ صارت حركة المرور فيهما بطيئة تماما والاختناقات المرورية الرهيبة صارت منذ شروق الشمس حتى ما بعد منتصف الليل بساعات برغم أننا مازلنا فى أيام البرد القارس، حيث معظم السكان ملتزمين منازلهم؛ فماذا سيحدث فى مطلع الصيف حيث تزداد الحركة فى الشوارع بالإضافة إلى مليون مصطاف يدخلونها يوميا .
هل يعلم من يقترف هذه الجريمة ومن يتواطأ معه على تنفيذ جريمته بأنه هو الآخر مجرم بأنهم جميعا مجرمين فى حق الوطن والمجتمع ومواطنيهم وفى حق أنفسهم وأبنائهم وحاضرهم ومستقبلهم ومستقبلنا جميعا ؟ بالتأكيد يعلمون ذلك تماما لكن الأرباح المليونية الطائلة قد أعمت بصيرتهم وطمست على ضمائرهم؛ ويعود سيادة المحافظ ليعلن حاجة المدينة مبدئيا إلى 900 مليون جنيه لإصلاح البنية الأساسية فى ظل هذه الظروف الاقتصادية الحرجة؛ ملايين الجنيهات ستنفق للترميم والإصلاح لبنية أساسية تهالكت تحت وطأة المخالفات؛ ملايين الجنيهات ستنفق ولن تحدث تعميرا حقيقيا ولا تنمية حقيقية؛ مئات الملايين من الجنيهات أنفقت فى مواد البناء من الحديد والأسمنت ومستلزماتها على عمارات وأبراج شاهقة مخالفة لقوانين ولوائح البناء؛ ولو أحسن توجيهها وفق تخطيط علمى سليم لأقامت هذه الملايين مدينة جديدة ومجتمع جديد.
هذه الجريمة تستوجب العقاب الحاسم والرادع والمانع لتكرارها ولا سيما أنها لا تمس فردا بعينه بل تمس المجتمع بأكمله وتؤثر فى حاضره ومستقبله؛ وبدلا من أن يخرج الجيل القادم إلى مجتمع جديد يفتح به ومعه آفاق جديدة إذا به يتكدس فى نفس الرقعة الضيقة والمساحة التى ضاقت عن ساكنيها واكتظت بهم وبمشكلاتهم وإذا بها تنذر بأوضاع مستقبلية لا تحتملها مدينة ذات ستة ملايين نسمة يعيشون محاصرين بين البحر والبحيرات على شريط ضيق خانق لهم ولحياتهم.
لا تصالح مع الجريمة؛ وأى كانت الأسباب والمبررات لا يمكن القبول بالتصالح مع هذه الجرائم والمخالفات الصارخة للقانون والنظام والقيم والمجتمع؛ لا تصالح مقابل غرامات مالية على المبانى والأبراج المخالفة؛ فأى كانت قيمة الغرامة المالية فهى زهيدة قياسا بالملايين التى حققها من خالف القانون وضرب به وبالنظام عرض الحائط؛ وهى زهيدة مقابل ما ستتكبده الدولة من نفقات هائلة لاحتواء تداعيات هذه المخالفات وآثارها السلبية على الاقتصاد الوطنى؛ وهى أيضا زهيدة قياسا بزوال الإرث الحضارى والمعمارى للمدينة.
هناك حتمية للعقاب الرادع الذى يصل إلى السجن لعدة سنوات لمختلف الأطراف المشاركة سواء كان صاحب العقار أو المقاول أو شركة البناء أو الموظف المرتشى؛ وحتمية فى إنزال العقاب الإدارى الصارم بعدم توصيل الكهرباء والمياه وشبكات الصرف الصحى نهائيا إلى المبانى المخالفة؛ وحتمية لتحميل المجرم نفقات إزالة وتصحيح وعلاج جريمته؛ حتمية لتحميل المجرم جزاء ما اقترفت يداه فى حق الوطن والمجتمع والمواطن؛ وليكون عبرة لمن يعتبر.