المكان: أمام فيلا شيكوريل، شارع أبو قير وشارع أحمد شوقي، رشدي الزمان: من الخامسة وحتى السابعة، 13 ديسمبر 2012 الحدث: وقفة احتجاجية دعت لها «مبادرة انقذوا الإسكندرية» اعتراضا على الاستعدادات الجارية لهدم الفيلا المشاركون: مواطنون سكندريون يدافعون عن مدينتهم
العمل يجري ليل نهار لإفراغ المبنى من محتوياته تمهيدا للهدم.
لا غرابة في ذلك، فكلما احتدمت الأحداث في وطننا، سارع "أغنياء الثورة" لهدم ما تبقى من مدينتنا..
فيلا شيكوريل تفرغ من محتوياتها ليل نهار تمهيدا لهدمها
أريد فقط أن أشير لنقطة هامة ربما لم يتسع الوقت لذكرها من قبل. الفيلا كانت خاصة بالخواجة شيكوريل وورثته، حتى جائت قوانين التأميم في الخمسينيات والستينيات وأممتها، أي نزعت ملكيتها، لتصبح مثل بقية ما تم تأميمه وقتئذ ملكا للدولة المصرية. بمعنى أنها الآن - بصرف النظر عن مدى أخلاقية أو شرعية هذا التأميم - أصبحت ملكا لي ولك ولسائر المصريين. في السبعينيات، كانت الفيلا مقرا تابعا لرئاسة الجمهورية. بل إن الرئيس السابق مبارك كان مقيما بها أثناء أحداث يناير 1977، أو انتفاضة الخبز، حين كان نائبا للسادات. وتجمع المتظاهرون أثناء هذه الانتفاضة أمام الفيلا وحاولوا أن يقتحموها كما يحكي الكثير من سكان المنطقة المحيطة بالفيلا. وأخيرا، في الثمانينيات، تمت إضافة دور ثالث للفيلا بشكل جيد جدا، بإشراف وتنفيذ القوات المسلحة المصرية.
من حقنا أن نتساءل كيف ومتى انتقلت ملكية الفيلا إلى الشركة العربية للملاحة البحرية؟ من باعها لهم؟ ملكيتهم مثبتة في أوراق القضايا التي أقاموها لرفع المبنى من قوائم التراث.
هل أممت مصر أملاك مواطنيها والأجانب المقيمين فيها لتمنحها للشركة العربية للملاحة البحرية التي تسعى اليوم بكل طاقتها لهدم المبنى؟
الكاحول (أوالكَحول، الجمع: كواحيل!) هو مصطلح سكندري يشير إلى الشخص الذي يوافق على استخدام اسمه في المستندات والأوراق الرسمية مثل عقود الملكية وشهادات الصلاحية وطلبات التراخيص لأعمال البناء المختلفة، كواجهة زائفة يتستر خلفها شخص أو أشخاص آخرون يقومون بمخالفات هدم و/أو بناء، وذلك مقابل مبلغ من المال. من ناحيته يوقع الكاحول على عقود أخرى صورية أو عرفية تضمن للمالك الحقيقي الاحتفاظ بممتلكاته في آخر الأمر (يطلق عليها "ورقة الضد"). بعد اكتشاف المخالفات (ان تم كشفها) قد يحاكم الكاحول ويسجن أو قد يقضيعمره هاربا من السلطات أو قد يمر كل شيء في سلام بعد تقديم الرشوة المناسبة للجهات المختصة، في الوقت الذي يستمر فيه عرض وحدات العقارات المخالفة للبيع بشكل شبه طبيعي ليجني المخالفون الفعليون أرباحا طائلة بعيدا عن طائلة القانون.
ظاهرة الكاحول لا تقتصر على البناء فقط بل هي حيلة موجودة في كل مجال يمكن أن تدر فيه المخالفات أرباحا كبيرة، مثل قطاع التموين أو الوقود أو غيرهما. وهي تكشف عن حجم الظلم الاجتماعي والانسحاق الإنساني الذي يدفع البعض إلى اعلان مسئوليتهم وتقبل إدانتهم عن جرائم ستصل بهم إلى السجن مقابل المال. غير أن هذا الاستعداد لتقبل الإدانة هنا يدل أيضا على نظرة المجتمع بشكل عام لمفهوم المخالفات البنائية تحديدا، فهو يعتبرها نوعا من التحدي لقوانين واشتراطات أغلبها - في رأيه - متعسف والخروج عليها لن يلحق الأذي بالشرف مثل غيرها من الجرائم. هذه النظرة المجتمعية المتسامحة مع المخالفات البنائية أدت إلى استخفاف السلطات التنفيذية بالمشكلة وإلى تراخيها في تنفيذ الأحكام والقرارات المتعلقة بها، مما أسفر في آخر الأمر عن تفاقم أزمة المخالفات بشكل ربما أصبح مستعصيا على الحل.
الكل يعرف بالطبع مَن هو مالك العقار ومن هو الكاحول، فلماذا إذن تستمر هذه المسرحية؟ ستستمر طالما استمر المناخ الذي تنتصر فيه الحيل القانونية والفساد الإداري على القانون والعدالة. بإسلوبه الساخر، كتب الراحل جلال عامر في إحدى مقالاته عن الكاحول في الحياة والسياسة:
... فكرتنى بالحاج «سعيد» الله يرحمه، خال «التيحى» من أم تانية، كان طول النهار قاعد على ناصية الشارع يسلم على المارة (السلامو عليكو عليكم السلام.. السلامو عليكو عليكم السلام) حتى رشحناه لجائزة «نوبل» فى السلام، وكان كلما حضر الضابط وسأل (عربية مين اللى واقفه فى الممنوع؟) يرد الحاج سعيد (عربيتى)، (شقة مين المخالفة؟) (شقتى)، (الممنوعات دى بتاعة مين؟) (بتاعتى) فيسأله الضابط (هيه كل حاجة هنا بتاعتك؟)، فيرد الحاج سعيد (أصل أنا يا باشا «كاحول» الحارة)، فيهنئه الضابط ويسلم عليه ويقول له (أنت من «الكواحيل» يا سعيد).
عمارة بارتفاع 50 متر على شارع عرضه 6 أمتار - سابا باشا
هي توقيع صغير الحجم، كبير التأثير (والثمن؟!)، بيد السيد المحافظ، رأس السلطة التنفيذية في المدينة وحاكمها المحلي، يقوم بموجبه باستثناء منشآت وعقارات بعينها من الالتزام بالقانون (الذي أقسم على الحفاظ عليه) ومن التقيد باشتراطات البناء المقررة في محافظته (والتي وضعتها وأقرتها الأجهزة التخطيطية بمحافظته، بموافقته)، خاصة فيما يتعلق بالارتفاع الأقصى ونسبة البناء المسموح بهما.
يعلق الكاتب يوسف زيدان على أحد أهم أمثلة هذه الظاهرة الفريدة في مقال له نشر في جريدة «المصري اليوم» (١٨/ ٧/ ٢٠١٢)، جاء فيه:
ثم كانت الفاجعة الكبرى فى هذا السياق، عندما استطاعت إحدى شركات المقاولات الكبرى الشهيرة الحصول على تصريح ببناء (مجمع فندقى تجارى وسكنى) وكانوا يملأون المنطقة أثناء إقامته بلافتاتٍ داعرةٍ مكتوبٍ عليها: سان ستيفانو مشروع صديق للبيئة.. والتهم هذا المشروعُ، صديق البيئة، الحدائقَ الواسعة التى كانت تحيط بالفندق القديم المكوَّن من طابقين، فقط، وكانت متنفَّساً لمنطقةٍ سكنيةٍ واسعةٍ تحيط بالفندق القديم ذى الطراز الإنجليزى. وعلى المساحة الهائلة، قام مبنى مهولٌ هو المعروف اليوم بفندق «فورسيزون» ومول «سان ستيفانو» وهو مبنى فاحش الفخامة، قمىء العمارة، سميته سابقاً فى مقالةٍ عنوانها (الوحش) نُشرت لى بجريدة الوفد قبل عدة سنوات.
سان ستيفانو في الستينيات. هدم في 2001 (من موقع aaha.ch)
سان ستيفانو جراند بلازا: فندق وشقق سكنية ومجمع تجاري على شاطئ الإسكندرية (من موقع Hotel.com)
فى أثناء مظاهرات ثورة يناير فى الإسكندرية، بعد أن تنفضّ المظاهرة ليلا، وننسلّ من الشوارع الرئيسية إلى بيوتنا فى الشوارع الجانبية، كنا نشاهد ونسمع أزيز خلاطات الأسمنت والزلط تعمل بكل طاقاتها، بينما البلدوزرات تهدم المبانى. كانت هناك نفوس أخرى لم تشغلها المظاهرات ولا الثورة، تجهد بكل ما أوتيت من قوة لكى تغتنم لحظة التحول السائبة، لتثبيت أقدامها، وعقاراتها، وضمائرها المخالفة، فى أرض المدينة. إنهم مثل هؤلاء الذين يستغلون الكوارث الطبيعية التى تحل بالمدن، كالزلازل، ويتمشون وسط الأنقاض يتشممون قطع الذهب والنقود، والأشياء النفيسة، ويخلِّصونها من بين أشياء الحياة اليومية للموتى. استغلوا ضوضاء المظاهرات ليمرروا ضوضاءهم، وضوضاء خلاطاتهم وبلدوزراتهم، دون حساب أو ضمير ينحنى لهذه الضوضاء الجماعية أو حتى ينصت إليها. حالة انتهاك مستمرة بدأت قبل الثورة، وأخذت مداها وسطوتها فى أثناء الثورة. كأن المعجزة التى حدثت كان لها سماسرة فى الانتظار. كأغنياء الحرب هم أغنياء الثورة الذين أثروا من هذا التحول، دون أن يشارك أحدهم فى التضحية، سوى التضحية المستقبلية بمئات الضحايا المنتظرين سكنى هذه العمارات المخالفة، التى أصبح سقوطها حدثا عاديا فى الإسكندرية. أصبح عمران وعمارة المدينة تحت سيطرة مقاولين لهم أتباع يلبسون جلابيب ويلفون لاسات بيضاء على رؤوسهم، ويخفون فى الجيب الداخلى للجلباب فردة سلاح. وآخرين بلباس مدنى حديث، يبيعون قوتهم لإرساء أشكال تخصهم فى العدل. أقصد حسنى النية منهم. هؤلاء متخصصون فى إخلاء أى مبنى وتطفيش سكانه بالتهديد، أو بإغراء المال، واستخراج تصريح هدمه. أو يحرسون تعلية مبنى مخالف، والسهر أمامه، وسط كركرة الجوزة، تحسبا لأى هجوم منتظر. أو تقويض أساسات مبنى أثرى بماء النار استعدادا لاستخراج تصريح بأنه آيل للسقوط. طبعا لا يحدث هذا إلا بالتواطؤ مع مسؤولى الأحياء، والشرطة، وغيرهم. أصبحت الإسكندرية مدينة مقسمة على عائلات مختصة فى حماية رأس المال الرهيب الذى يُستثمر فى العقارات المخالفة.
فى الشهر الماضى هُدم العقار الكائن فى 2 شارع كنيسة دبانة مع صلاح سالم (شريف سابقا). وهو الشارع المهم فى وسط البلد فى الإسكندرية. تكون ضفتاه متحفا مفتوحا للعمارة الإيطالية، ولم تتغير عمارته منذ ضرب الإسكندرية 1882، باستثناء إزالة مبنى الاتحاد الاشتراكى (البورصة القديمة) بعد حرقه فى مظاهرات الخبز عام 77. وتم إدراجه منذ 2007 فى قائمة التراث العمرانى لمدينة الإسكندرية، تحت رقم 63.
هدم المبنى ترك فراغا فى الشارع. كما يترك الضرس المخلوع فراغا تظل تتحسسه بلسانك باستمرار. لماذا لا يحدث كما فى الخارج، أن يحتفظوا بالواجهة المميزة للمبانى الآيلة للسقوط ويبنوا من خلفها، لحفظ عمارة الشارع. أو أن يتم تعويض أصحابها وتحويلها لمتاحف أو غيرها من النشاطات.
قبل هدم هذا المبنى مررنا عليه كثيرا، كأننا نودعه. كان مسيَّجًا بسرادق، كأنه سرادق عزاء، وهناك جريمة وميت، يريدون أن يواروه تحت التراب سريعا.
ضربة جديدة موجعة، جاءت هذه المرة، ولأول مرة، في واحد من أهم وأجمل شوارع المدينة المتعبة، شارع شريف(صلاح سالم)، تحديدا عند تقاطعه مع شارع «كنيسة دبانة».
إنه شارع شريف يا أهل الإسكندرية، الشارع الوحيد الذي لا يزال محتفظا ببعض رونق مدينتكم. الشارع الذي تبارى فيه معماريو القرن التاسع عشر والقرن العشرين في إظهار مهاراتهم، وفي احترام بعضهم البعض في الوقت ذاته، فجاءت كل مبانيه بنفس الارتفاع ونفس النسب، برغم الاختلاف في الطرز ومواد البناء.
ها هي الضربة الأولى لعمارة هذا الشارع. فماذا أنتم فاعلون؟
عدسة: نور عمار
الضربة مختلفة هذه المرة، فلأول مرة تصل الجرافات لمثل هذا "الحجم" من الأبنية التاريخية.. لقد تم القضاء على الغالبية العظمى من الفيلات الفريدة والبيوت صغيرة الحجم بطول الإسكندرية وعرضها، وحان الآن دور العمارات السكنية القديمة... المجد للبلدوزر!
بناية سكنية من أربعة أدوار من أقدم المباني الموجودة في هذا الشارع الفريد، من يتخيل أن مالكها سيتمكن من اخلاء جميع شقق الأدوار السكنية وجميع المحال التجارية، ثم يتمكن من الحصول على حكم قضائي مشفوع بتقارير خبراء وزارة العدل الذين رأوا أن المبنى آيل للسقوط ويتوجب هدمه حتى سطح الأرض، ثم يستخرج جميع التصاريح اللازمة، ويبدأ الهدم.
عدسة: أحمد نبيل
كله بالقانون!
فإن أبديت استياءك وتساءلت كيف يكون المبنى آيلا للسقوط بينما يبدو سليما عفيا بلا شروخ أو تصدعات برغم قِدمه، بل وقد استغرق صاحبه نحو أسبوعين متواصلين يعمل على هدم جدرانه؟ فتجد من يغضب لما ترمي إليه، فيعلو صوته مدافعا عن القانون.. ويحك! كيف تجرؤ؟ انه القانون! حكم المحكمة!! والحكم عنوان الحقيقة!
تمام!
أين القانون إذن من عشرات الآلاف من الأبراج المخالفة؟ أين القانون من هدم المباني المسجلة بقائمة التراث أمام مرأى ومسمع الجميع؟
ألا يطبق هذا القانون إلا في خراب المدينة فقط؟
.........!
سأتركك الآن لصور المبنى الذي رأى خبراء وزارة العدل أنه آيلا للسقوط وخطرا داهما على المارة، فهدمه صاحبه هذا الأسبوع... إنه العقار 2 شارع كنيسة دبانة، تقاطع شارع شريف باشا، والذي أدرج في 2007 في قائمة التراث العمراني لمدينة الإسكندرية، تحت رقم 63.
هكذا كتب محفوظ عن الإسكندرية في«ميرامار» (1967). وهكذا كان للإسكندرية مكان بارز في الوجدان الجمعي للمصريين جميعا، فهي لغير ساكنيها المدينة البهية المطلة على اتساع أفق المتوسط. الشواطئ، الشوارع والميادين والحدائق، العمارة الأوروبية، المواقع الأثرية، كلها تصنع عمران المدينة/عروس البحر. صورة براقة ومرحة وحالمة شارك في صياغتها عشرات من الأعمال السينيمائية والروايات والأغنيات. ...
لكننا انهكنا المدينة. وها هي الصورة الوجدانية توشك أن تخبو من الأذهان. ...
أدعوك هنا لتقرأ وتتأمل ما كتبه ميشيل حنا الكاتب والمدون في مدونة «مستنقعات الفحم» عن زيارته الأخيرة للإسكندرية. تحت عنوان "خراب الإسكندرية" كتب يقول:
"عندما رأيت الإسكندرية هذا الصيف كانت مختلفة بشكل كبير عن الصيف الماضي. في كل مكان بلا استثناء هناك بيوت مهدومة وأبراج هائلة الارتفاع بالغة القبح تصعد إلى ما لا نهاية. في القاهرة هناك حدود للارتفاع محددة بأحد عشر دورا، لكن الإسكندرية لا تعرف حدودا للارتفاع، حيث ترى قمة البرج لا تزال مزينة بالأعمدة والخشب ولا يمكنك أن تتوقع متى سيكتفون ويتوقفون، وكأن هناك سباق لبناء برج بابل."
عدسة ميشيل حنا
يتحسر ميشيل في مقاله على المنشية ومحطة الرمل وشارع فؤاد وعمود السواري. ويسجل أسباب حسرته بالكاميرا. صور تفيض بالأسى والسخط.
والسؤال هنا: هل انتهت الصورة الذهنية الجميلة للمدينة التي تعرضت للتخريب؟ ما رأيك؟
فيلم قصير من تصوير وإخراج تيمور سنبل، بالاشتراك مع خالد العشري وآية ابراهيم. يحتفي سنبل - وهو معماري وعضو هيئة تدريس بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية - بأمكنة وأبنية سكندرية مختلفة الطابع والطبيعة والتاريخ تمثل فيما بينها أجزاءا من موزاييك الإسكندرية، في لقطات متعاقبة غلفتها موسيقى "باسكاليا" راجح داود بشجن فريد.
فيلا النقيب اهتمت المدونة بقرار السيد كمال الجنزوري بمحو فيلا النقيب من قوائم التراث فور صدوره. القرار جاء بناءا على حكم محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية. في بداية يوليو تم هدم الفيلا، التي تغطيها الأشجار بشكل كامل، بشكل عاجل ودون إظهار ما يفيد حصول المُلاك على رخصة هدم من الحي. وبالطبع كما هدم المبنى التاريخي الذي كان يوما سكنا للملكة ناريمان، آخر ملكات مصر، ستقطع كذلك كل هذه الأشجار ليحل محلها برج سكني خرساني جديد.
2007
مايو 2012
مايو 2012
يوليو 2012
فيلا 553 ش أبو قير - جليم الدور الأرضي من هذه الفيلا كان حتى وقت قريب مقرا لأحد محال المفروشات مما ساعد على الحفاظ عليها والعناية بها. ثم اختفى المحل وامتلأ السور الخارجي بلافتات تعلن عن خلافات قضائية بين أطراف يتنازعون عليها، قبل أن تطيح الجرافات بها فجأة أيضا في الأسبوع الأول من يوليو.
أحشاء المدينة المتعَبة.. حارة «القبو الغربي» المتفرعة من حارة «البقطاريه»، من شارع النصر، حي الجمرك. الوصول لموقع الكارثة صعب. حارة ضيقة تؤدي إلى حارة أضيق. متاهة عمرانية خانقة.
الزمان:
عصر السبت، 14 يوليو 2012.
الجريمة:
انها الجريمة التي كنا نتوقعها جميعا وننتظر حدوثها بين لحظة وأخرى، منذ انتشار وباء البناء بدون تراخيص في الإسكندرية بعد ثورة يناير. عمارة سكنية حديثة البناء من أحد عشر دور تميل بشدة بشكل مفاجئ، قبل أن تنهار بالكامل في لحظات مثل بيت من أوراق الكوتشينة، جاذبة معها أربعة بيوت أخرى في رحلة الانهيار، لتخطف أرواحا لم نعرف بعد أعدادها بالكامل.انها أولى الكوارث، وغالبا لن تكون الأخيرة.اذهب بنفسك هناك لتسمع الحكايات المؤلمة. هنا كان يعيش عجوز لا يعرف مكانه أحد. وهنا عائلة بالكامل ابتلعتها الكارثة. الدور الأرضي يشغله مخبز بلدي كان مكتظا بالعمال والزبائن وقت الانهيار، وهو ما يعني أيضا أن هناك عدد من أنابيب البوتاجاز لا تزال ترقد تحت الأنقاض كقنابل غير موقوتة.
عن المصري اليوم - تصوير حازم جودة
تحركات المسئولين بعد وقوع الكارثة المتوقعة من الممكن أن نعتبرها جريمة أخرى. لا إمكانات. لا معدات حديثة. لا خطة لإدارة الأزمة. الأهالي يبحثون عن ذويهم بأنفسهم. قوات الأمن والجيش في حالة ارتباك مثير للغثيان. بالضبط نفس ما رأيناه وقت كارثة «عمارة لوران» التي راح ضحيتها 36 انسانا في ديمبر 2007. لم يتغير أي شيء. لم نتعلم من أخطائنا الجسيمة أي دروس.
محاولات انقاذ بدائية يائسة
من الجاني؟
في بادئ الأمر أعلن الحاج «أحمد أكبر» مالك العقار أنه سيبني فقط دورين أو ثلاثة على قطعة الأرض التي لا تزيد عن 40 مترا مربعا، لتصبح كل دور ورشة. هكذا يروي أهالي المنطقة الفصل الأول من المأساة. لكن كما نعرف جميعا لم يعد هناك رقيب أو حسيب بعد الثورة، فلماذا لا يخالف؟ وكلما أضاف الرجل دورا بلا ترخيص وجد غيره يضيف أدوارا فوق أدوار في الجوار، وفي كل أنحاء المدينة المتعَبة، فيقرر أن يفعل مثلهم.. "الله؟ .. إشمعنَى أنا يعني.. ما كله بيبني، وكله بيخالف.. جَت عليا أن يعني؟". هكذا برر الجُرم لنفسه بالطبع.
لكن، من ترك الحاج أحمد يشيّد جريمته ذات الأحد عشر دورا؟ كيف ارتفع البناء بالتدريج، بلا أساسات، تحت سمع وبصر مسئولي الحي التعس؟
نحن أمام احتمالين، كلاهما مأساوي:
السيناريو الأول: أن المبنى تم بناؤه بالتنسيق مع مهندسي الحي: نعرف أن امبراطورية الفساد الإداري في مصر تحتاج عقودا ليتم تفكيكها (إذا أردنا ذلك، على فكرة). بعض الناس في الشارع يتحدثون عن "الرشاوي اليومية" التي كان مهندسو الحي يتقاضونها أثناء تشييد المبنى. إن صحت هذه التهامات، كيف أيها "الباشمهندسون" و"الباشمهندسات" تصمتون وتتقاضون ثمن صمتكم وأمامكم بناء يرتفع بلا أساسات؟ ألم تدرسوا عواقب هذه الجريمة في كلياتكم؟ أين دفنتم ضمائركم؟ وأين رؤساؤكم ورؤساء رؤسائكم؟ هل قام رئيس حي الجمرك بزيارة حارة البقطارية منذ تولى منصبه؟
السيناريو الثاني: أن مهندسي الحي قاموا بواجبهم وحرروا بالفعل محاضر وافية بمخالفات المالك، وهو ما يستوجب بالتالي أن يتم إزالة العقار بمعرفة قوات الأمن بقوة القانون. طبقا لتصريحات د. اسامة الفولي، محافظ الإسكندرية المستقيل، فإن عدد ما تم حصره بالفعل من العقارات المخالفة بعد الثورة بلغ 8 آلاف عقار مخالف، بخلاف التعليات المخالفة على العقارات القديمة. كل هذه المخالفات لم يتم إزالتها لأن قوات الأمن في الإسكندرية (وفي سائر أرجاء المحروسة) توقفت تماما منذ اندلاع الثورة عن تنفيذ القانون فيما يتعلق بمخالفات البناء.
الاحتمالان قائمان، وربما كان الأمر خليطا من الاثنين. وهكذا لم يجد الحاج أحمد من يوقفه، فاستمر في تعلية المبنى في طمأنينة كاملة لم يقطعها سوى صوت الانهيار المروع مختلطا بصرخات الضحايا.
لكن يبقى أيضا أن أسألكم: لماذا صمت المجتمع؟ لماذا صمتم جميعا يا سكان الإسكندرية؟ هل نسيتم مأساة عمارة لوران؟ ألا يعرف الجميع أن هذه العمارات تبنى بدون إشراف هندسي وبواسطة مقاولين جهلة وبأساليب بناء خاطئة؟ لماذا صمتم يا ناس؟ أتعرفون؟ الصمت على الجرم تواطؤ.
شهادة:
بعد الثورة بأيام قليلة، بدأ وباء البناء غير المرخص في الإسكندرية. ارتفعت الأدوار المخالفة بطول الإسكندرية وعرضها بشكل يفوق الخيال. وقتها بذل عدد من المهتمين بأمر هذه المدينة المنكوبة كل ما في وسعهم لوقف هذه المهزلة. سأذكر هنا ما عاصرته بنفسي.
عندما تحول الأمر إلى ظاهرة واضحة، سارع عدد من المعماريين السكندريين(*)بإنشاء صفحة «معا للحفاظ على عمران الإسكندرية» على فيسبوك ليدعوا سكان الإسكندرية للحفاظ عليها برصد مخالفات البناء وهدم العقارات التاريخية. استجاب الكثيرون بالفعل وشارك معهم المئات بما يشبه البلاغات عن المباني وعن التعليات المخالفة وعناوينها وصورها. وقتها كان حماس ما بعد الثورة مشتعلا، كان الجميع يحلم بمصر أجمل وأرقى ويرون الحلم قريبا جدا جدا. صفحات أخرى على فيسبوك أيضا قامت بنفس المبادرة في نفس التوقيت، منها صفحة «رصد مخالفات البناء في الإسكندرية» وصفحة «رصد مخالفات البناء أثناء الثورة» و«مقاومة المواطنين الشرفاء لمخالفات البناء»، بخلاف جهود أخرى عديدة.قام هؤلاء المعماريون بتوقيع العقارات المخالفة على خرائط في شكل تقرير مفصل. قابلوا المسئولين. قدموا للـ «منطقة الشمالية» للقوات المسلحة ما جمعوه من بيانات وعناوين وخرائط وصور.
وانتظروا أن يتحرك المسئولون والتنفيذيون...
ومازالوا منتظرين!
مثال من مشاركات صفحة «معا للحفاظ على عمران الإسكندرية»
المخالفات التي تمت إزاتها لا تذكر. وكان من أغرب ما سمعنا في هذا الوقت أن تجاهل هذه الظاهرة المخيفة مقصود ومتعمد. فالقائمين على شئون البلاد أرادوا أن ينشغل جزء كبير من الفئات الفقيرة والمهمّشة في المجتمع في عملية البناء غير المرخص كحل مؤقت لتفادي انفجار هذه الفئات. والنتيجة: عشرات الآلاف من المباني البائسة كل منها ينتظر نفس مصير عمارة حي الجمرك بين لحظة وأخرى. أصبح البناء المخالف هو القاعدة وليس الاستثناء المجرَّم. وأصبحت البلطجة هي سيدة الموقف. في الحالات القليلة التي أزيلت منها الأدوار المخالفة، أعاد الملاك بنائها مرة أخرى! وامتد البناء إلى أراضي الدولة والأوقاف بل وقام البعض بالبناء في عرض الشارع وفي حرم خطوط السكة الحديد. لم يعد هناك شارع في الإسكندرية يخلو من مخالفة بناء.
السؤال الآن عن الحل. ما العمل؟ كيف سننقذ ألاف العقارات المخالفة من مثل هذا المصير المخيف؟ كيف ستنجو الإسكندرية من هذه الكارثة المتوقعة؟ هل نستطيع أن نزيل الآن كل ما بُني بشكل مخالف؟ أم سنستيقظ غدا على انهيار جديد وضحايا جدد؟ ماذا لو وقعت هزة أرضية في الإسكندرية كتلك التي ضربت القاهرة والدلتا منذ أيام؟ كم بناء سينهار حينها وكم روح ستزهق؟ هل تستطيع أن تتخيل الأرقام معي؟ هل سنجلس هكذا مكتوفي الأيدي في انتظار الكارثة؟
يا الله!
يقول نجيب محفوظ على لسان «الشيخ عبد ربه التائه» في «أصداء السيرة الذاتية» عندما سُئل الشيخ: "كيف الخروج من المحنة التي نعانيها؟"، فأجاب: "إذا خرجنا سالمين فهي الرحمة.. وإذا خرجنا هالكين فهو العدل."
(*) المجوعة المذكورة تكونت من كل من د. دينا سامح طه، د. مي عباس يحيى، د. ياسر عارف، م. أحمد أبو الوفا، م. محمد مهينة، وكاتب هذه السطور. وقد قام أستاذنا د. عباس يحيى بجهود عديدة لتقديم هذه البيانات إلى المسئولين في هذا الوقت.
ماذا فقدت الإسكندرية في يونيو 2012؟ هذا حصر لبعض ما هدم. هذا هو ما استطاع بعضنا تسجيله قبل أو بعد أن يهدم. الصدفة هي معيار التوثيق هنا. الغالبية العظمى من هذه المعلومات مصدرها مشاركات أعضاء صفحة انقذوا الإسكندرية على فيسبوك. كثير منهم حاولوا انقاذ المباني قبل وأثناء هدمها بإبلاغ السلطات وبالكتابة على الإنترنت. لهم كل التحية. أما المسئولون والتنفيذيون في هذه المدينة المنكوبة.. فلكم كل العار.
ا. 89 شارع عبدالسلام عارف، جليم.
عدسة: محمد عادل دسوقي
كتبتُ هنا محبطامنذ نحو شهر عن هذه الفيلا، بعد أن هُدم جزء من واجهتها بالمخالفة للقانون. كتبت أن الحال ظل على ما هو عليه بعد الجريمة. ظننت أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لهذا المبنى، فهو مسجل بقائمة التراث ومحميّ بقوة القانون... كنت ساذجا...
عدسة: هبة مؤنس
عاودت البلدوزرات هجومها على المبنى ليلا أول أيام شهر يونيو. وحاول جيران المبنى التصدي لهم، وإبلاغ النجدة. واستمرت لعبة القط والفأر بين الجيران وبين عمال الهدم لعدة ليال. حتى تم هدم المبنى بالكامل! سأنقل هنا ما كتبته د. دينا سامح طه، وهي أستاذ العمارة المساعد بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية وعضو لجنة التراث بالمحافظة، وما كتبنه م. هبة مؤنس، المعيدة بقسم العمارة بكلية الفنون الجميلة، وكذلك أ. مروة منير طه، إحدى جيران الفيلا على صفحة انقذوا الإسكندرية، ففي شهاداتهن توثيق هام لأحداث الهدم:
د. دينا سامح طه:فيلا 89 عبد السلام عارف يتم هدمها الان... برجاء على الأقل الاتصال ببوليس النجدة والإبلاغ... قمت بإبلاغ النجدة بعد منتصف الليل بعدة دقائق.. وفى تمام 1:43 جاءنى اتصال من غرفة عمليات المحافظة لإخبارى أن بلاغي قد تم تحويله للحي التابع له العقار.. حى إيه االساعة 1:43 بعد منتصف الليل، والهدم شغال على ودنه؟ فأجاب المتصل بكل ثقة: أمال عايزة إيه؟؟ روحي قدمي بلاغ فى القسم! امتى حيكون فيه قانون يحترم فى هذه البلد.... لك الله يا مصر!
أ. مروة منير طه:حد يعرف مين الناس دي اللي كل يوم بيكملوا هد الفيلا الأثرية دي اللي علي ترام جليم؟؟ بيبدأوا بعد نص الليل في التكسير. وكل يوم بنتصل بالشرطة العسكرية والمدنية، بس الظاهر ان الناس كلها واكلة في الموضوع ده جامد... أرجوكم يا جماعة شير... ويا ريت نسأل فين محافظ الاسكندية والجيش.
عدسة: مروة منير طه
أ. مروة منير طه: نص الفيلا انهااااااااااار .... طبعا ناس كتير كانت نايمة وقاموا مخضوضين علي الصوت والتراب. والسكان بدأوا يشتبكوا ويشتموا في الحرامية وطبعا الحرامية بدأوا يردوا علي القزاز اللي كنا بنرميه والشتيمة بضرب نار في الجو. وطبعا بعد ما فقدنا الأمل في وجود الجيش والشرطة بعد ساعتين من البلاغات.. وطبعا زي ما انتوا شايفين نص الفيلا انهااااااااار..
عدسة: مروة منير طه
أ. مروة منير طه: الصورة دي بعد 3 ساعات لما البوليس وصل، وماعرفش يمسك غير كام فرد من أصل حوالي أكتر من عشرين فرد، وطبعا الأهالي نزلت وبهدلت الحفار والكراك عشان محدش يقدر يحركهم، بعد ما الشرطة رفضت تاخد المعدات حرز أو تسيب عساكر حرس للمكان. أنا فخورة بأهالي منطقتي... تحيا جليم!
مروة منير طه
أ. مروة منير طه: طبعا شكل الفيلا الصبح بعد المأساة امبارح.. المهم ان الناس بتقول انها أثرية علشان بتاعة آسيا داغر منتجة السينما، وصاحبها دلوقت راجل مهاجر أمريكا وفيه محامي في المنطقة مزور ورق، وكان بيأجرها بقاله كذا سنة وهوا اللي ورا البلطجية اللي بيحاولوا يهدوها باليل..
عدسة: هبة مؤنس
م. هبة مؤنس: التاريخ: 3 مايو 2010: تم هدم الجزء الامامى بالكامل ولم يبقى بها سوي الجدار الخلفى واللودر لازال منذ الثامنة صباحا يفتت الكتل الخرسانية والطريق شبة مشلول بالكامل من ردم "ما كانت فيلا".. هل المبنى مدرج فى قائمة الحفاظ على التراث؟ هل فعلا تم أخذ قرار بالهدم أم أنه قرار مزور؟؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون.
م. هبة مؤنس: تم هدم فيلا جليم بالكامل بالأمس. وجاري تفريغ بقايا الردم من السادسة صباحا حتى الان, والان اللودر والعمال بالموقع لتكسير كتل الاحجار, حاولت الاتصال بالنجدة، ولم أستطع الوصول تليفونيا لهم.
م. هبة مؤنس: كان هذا المبنى في طريقي اليومي طوال الأحد عشر عاما الماضية. كان ذلك المبنى وجاره بسمتى فى "جليم" بجوار بعض الفيلات الأخرى فى "سابا باشا". أمر بجانبهم فأتشمم نسمة هواء مختلفة وضوء شمس غير معتاد وسط تلك المبانى الشاهقة المحيطة. لا أستطيع اليوم بعد رؤيتي لهذا المبنى متهدم بالكامل إلا أن أقول: لقد انطفأ جزء من بسمتي المشروخة.. وداعا إلى الأبد.
أثارت أخبار قرب هدم النادي اليوناني بالإبراهيمية ضجة كبيرة منذ نحو ثلاثة أشهر. كتبت إيزيس خليل، وهي ناشطة سكندرية، رسالة وقتها على فيسبوك بعنوان "اصرخوا قبل أن ترفعوا الراية البيضاء" تنعي فيها عمران الإسكندرية التاريخي المنكوب، فكان لكلماتها وقع كبير بين مستخدمي الإنترنت في مصر. واهتمت وسائل الإعلام بالقضية بشكل كبير.
مبنى النادي اليوناني في واقع الأمر ليس مدرجا في قوائم التراث، ويحق لذلك لملاكه أن يتقدموا بطلب لهدمه (لا أعرف هل قاموا بذلك أم لا). ذكرت وسائل الإعلام أن بناءه يرجع إلى عام 1942. هو مبنى سكني بسيط يتكون في الأصل من ثلاثة أدوار بخلاف دورين تمت إضافتهما بشكل رديء في زمن لاحق، ويأتي النادي اليوناني (الإسم الدقيق هو نادي الجمعية اليونانية - آسيا الصغرى) بالدور الأرضي منه.
في الأسبوع الأول من يونيو تم هدم المبنى بالكامل. من كتبوا على الإنترنت وصفوا الأمر أنه "انهيار" و ليس "هدم". الصور أيضا لا يظهر بها أي بلدوزرات. كيف انهار المبنى؟ لا أعرف.
ملاحظة أخيرة: الشارع الذي يقع عليه مبنى النادي اليوناني بالفعل لا يتجاوز عرضه خمسة أمتار... ترى، كم سيبلغ ارتفاع البرج السكني الذي سيبنى غدا بدلا منه؟